خلق الله تعالى البيئة نقيَّة، سليمة، نافعة، وسخَّرها للإنسان وأوجب عليه ضرورة المحافظة عليها؛ كما دعاه إلى ضرورة التفكُّر في آيات الله الكونيَّة، التي خُلِقَتْ في أحسن صورة، فقال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُل زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 6، 7][1]. فنشأتْ عَلاقة حُبٍّ ووُدٍّ بينه وبين البيئة المحيطة به من جماد وأحياء، كما أدرك أن المحافظةَ على البيئة نفعٌ له في دنياه؛ لأنه سيَحْيَى حياة هانئة، وفي آخرته حيث ثواب الله الجزيل.
رسول الله وحقوق البيئة
جاءت رؤية رسول الله للبيئة تأكيدًا لتلك النظرة القرآنيَّة الشاملة للكون، التي تقوم على أن هناك صلةً أساسيَّة وارتباطًا متبادَلاً بين الإنسان وعناصر الطبيعة، ونقطة انطلاقها هي الإيمان بأنه إذا أساء الإنسانُ استخدام عنصر من عناصر الطبيعة أو استنزفه استنزافًا، فإن العالم برُمَّته سوف يُضَارُّ أضرارًا مباشرة.
ومن ثَمَّ وضع رسول الله قاعدة عامَّة لكل البشر الذين يحْيَوْنَ على ظهر الأرض، وهي عدم إحداث ضرر من أي نوع لهذا الكون، فقال رسول الله : "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ..."[2]. كما نجد رسول الله يحذِّر من تلويث البيئة، فيقول : "اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ"[3].
وجعل رسول الله إماطة الأذى من حقوق الطريق، فقال رسول الله لصحابته الذين يُريدون الجلوس في الطريق: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ". فقالوا: ما لنا بدٌّ، إنَّما هي مجالسنا نتحدَّث فيها. فقال لهم: "فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا". قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "... وَكَفُّ الأَذَى..."[4]. وكفُّ الأذى كلمة جامعة لكل ما فيه إيذاء الناس ممن يستعملون الشوارع والطرقات.
كما نجد رسول الله يربط بين ثواب الله والمحافظة على البيئة فيقول: "عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي، حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ"[5].
حرص رسول الله على نظافة البيئة
ويأمرنا رسول الله صراحة بنظافة المساكن، فيقول : "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ... فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ، وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ"[6]. فما أروع التعاليم النبويَّة التي تحثُّ على الحياة الطيِّبة الخالية من أي نوع من أنواع الملوِّثات؛ فتحافظ بذلك على راحة الإنسان النفسيَّة والصحِّيَّة.
ومن حُبِّ رسول الله للبيئة ونظافتها نجد رسول الله يتذوَّق الجمال ويحثُّ عليه؛ لذلك قال رسول الله للصحابي الذي سأله قائلاً: أَمِنَ الكِبْرِ أن يكون ثوبي حسنًا ونعلي حسنًا: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ[7]"[8]. ولا شكَّ أن من الجمال الحرصَ على مظاهر البيئة التي خلقها الله تعالى زاهية بهيجة.
كما نجد في إرشاد رسول الله إلى حُبِّ الروائح الطيِّبة وإشاعتها بين الناس، وتهاديها، وتجميل البيئة بها؛ محاربةً للبيئة الملوَّثة؛ حيث قال رسول الله : "مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلاَ يَرُدُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ"[9].
ترغيب رسول الله في زراعة الأرض
ويُرَغِّب رسول الله الأُمَّة في استنبات الأرض وزراعتها، فيقول: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلاَّ كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلاَ يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ[10] إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ"[11]. وفي رواية: "إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". فمِن عظمة الإسلام أن ثواب ذلك الغرس -المفيد للبيئة بمن فيها- موصول ما دام الزرع قد استُفيد منه، حتى ولو انتقل إلى مِلْكِ غيره، أو مات الغارس أو الزارع!
كما يَلْفِتُ الأنظار إلى المكاسب التي يجنيها الإنسان من إحياء الأرض البور؛ إذ جعل زرع شجرة، أو غرس بذرة، أو سَقْي أرض عطشى من أعمال البرِّ والإحسان، فقال رسول الله : "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَلَهُ مِنْهَا -يَعْنِي أَجْرًا- وَمَا أَكَلَتِ الْعَوَافِي[12] مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ"[13].
المحافظة على الماء
ويخصُّ الماء بالذكر باعتباره أحد أهمِّ الثروات البيئيَّة الطبيعيَّة، فكان الاقتصاد في الماء والمحافظة على طهارته قضيَّتَيْن مهمَّتين عند رسول الله ، ونرى رسول الله حتى عندما يكون الماء متوفِّرًا ينصح بالاقتصاد في استعماله، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو من أن النبي مَرَّ بسعد[14] وهو يتوضَّأ، فقال: "مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ؟" قال: أفي الوضوء سرفٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ"[15]. كما نهى رسول الله عن تلويث المياه، وذلك بمنع التبوُّل في الماء الراكد[16].
هذه هي النظرة النبويَّة الشاملة للبيئة، التي تؤمن بأن البيئة بجوانبها المختلفة يتفاعل ويتكامل ويتعاون بعضها مع بعض وَفْق سُنَنِ الله في الكون الذي خلقه I في أحسن صورة.