سيدي الحبيب صلى الله عليكم وسلم...
ها هي نسائم شهر المحرم دومًا كالعهد بها تهل علينا وتهيج معها ذكريات الهجرة؛ فتثير داخلنا روابطها الذهنية الودودة، والتي تربطنا بأحداث عظام حولها، شارك فيها كل من أحاطوا بكم، وسعد بصنع أحداثها كل من عرفوكم، وتشرف الإنس والجن بل والوجود كله بمشاهدة فعاليتها وساهم في إنجاحها؛ فتغيروا معها أو ولدوا معها وتغير معهم التاريخ البشري.
ولعلها حكمة رائعة أن تبدأ أعوامنا من تاريخ هجرتكم الطيبة، كعنوان لميلاد أمة الرسالة الخاتمة.
لذا تجدنا مع هذه الذكرى المباركة، وكأننا ولدنا من جديد؛ فتطير القلوب شوقًا لرؤياكم، وتدمع العيون حبًّا لشخصكم الحبيب، وتسمو النفوس روحانية بالإكثار من الصلاة والسلام عليكم.
ومن باب تجديد قراءتنا لذكرى الهجرة، نجدها توقظ فينا رؤية جديدة وهي أن أحداث هجرتكم تدور حول محور عظيم، وهو تلك العبقرية القيادية والإدارية التي أدرتموها بها.
فما هي المهارات القيادية والإدارية في الهجرة؟
سيدي، عندما نتأمل كيف بدأت فكرة الهجرة من مكة إلى المدينة؛ فإننا نلاحظ هذه الرسائل:
1- فقه الواقع .. وأدب المراجعات:
بعد سلسلة من المحن المتلاحقة، أبرزها محنة وفاة خديجة -رضي الله عنها- التي كانت بمنزلة الملاذ الداخلي للداعية، وكذلك موت أبي طالب الذي كان يعتبر الملاذ الخارجي؛ حتى سمي عام الحزن، وما تلاه من أحداث أهمها محنة الطائف وعصيان ثقيف؛ فلم تتجمد الحركة الدعوية، ولم يتقوقع الداعية على أحزانه، كما كان متوقعًا لها وله من مناوئي الدعوة.
فجاء التفكير في تجديد أسلوب المسيرة الدعوية؛ فخرجتم إلى الناس لتفتح أبوابًا جديدة، تكسر طوق الحصار والتعتيم والتجهيل القرشي الرهيب حول الدعوة والداعية، وذهبتم إلى القبائل أثناء مواسم الحج، في العام العاشر والحادي عشر من البعثة لعرض الفكرة، وطلبًا للنصرة والمنعة.
فعبرت الدعوة إلى مرحلة جديدة، وبدأت قفزة تجديدية رائدة في أسلوب الخروج إلى الناس.
فبدأت بشريات الانفراجة السماوية العلوية بحادث الإسراء المعراج، من باب التأييد الإلهي.
وتلتها البشريات الأرضية بحادثتي بيعة العقبة الأولى والثانية، بعد تحرك واعٍ، وجهد بشري ذكي.
وتلك هي الرسالة التربوية والإدارية الأولى، وهي أنه من الحكمة أن نقف عند بعض اللحظات الفارقة، خاصة عندما نتعرض لبعض المعوقات ونمارس أدب المراجعات، بناءً على فقه للواقع ومعرفة بإمكاناتنا وقدراتنا؛ فنقف لنقيِّم أنفسنا، ولنقيم أعمالنا وأقوالنا، ونراجع ما أنجزناه، ونفكر في كيفية عبور الفجوة التي تمنعنا من تحقيق أهدافنا، وللتغلب على المعوقات والبحث عن تجديد في الوسائل.
2- تحديد الهدف:
عندما وضعتم أيها الحبيب صلى الله عليكم وسلم هدفًا مرحليًّا (تكتيكيًّا)؛ وهو إقامة المجتمع المسلم في المدينة، على طريق الهدف البعيد (الإستراتيجي) وهو إقامة الدولة المسلمة، والتمكين لدين الله في الأرض.
كان من أهم وأبرز الأهداف المرحلية؛ هو الهجرة إلى المدينة.
وحتى يتحول هذا الهدف إلى واقع أو إنجاز ملموس؛ فقد وضعتم -صلى الله عليكم وسلم- لهذا الهدف خطة الهجرة، والتي تميزت بكل الصفات الإدارية لأي خطة.
والخطة هي قائمة الأنشطة أو الإجراءات التي ستأخذك من حيث أنت إلى حيث ما تريد مستقبلاً.
وهي رسالة تبيِّن أهمية تحديد الهدف، ووضع خطة متدرجة ومؤقتة بإجراءات واقعية تحقق الهدف.
3- فن التعامل مع الطاقات والقدرات:
عندما حيث قمتم -صلى الله عليكم وسلم- بتكوين فريق للعمل لإنجاز خطة الهجرة؛ ليتحمل مسئولياته وينفذ إجراءات تلك الخطة؛ مثل:
(1) تأمين الرفقة: وكان الصديق -رضي الله عنه- هو المرشح لها.
(2) مسئولية تأمين المعلومات والأخبار: والمسئول هو عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه.
(3) مسئولية تأمين التغذية: وكانت المسئولة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.
(4) مسئولية التمويه: وشارك فيها كل المسئولين، خاصة الراعي عامر بن فهيرة، الذي كان يمحو الآثار بغنمه. بل إن سراقة بن مالك -رضي الله عنه- شارك فيها بعد فشل عملية المطاردة، ثم باتفاقه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكون له الأمان ثم الحصول على سواري كسرى.
(5) مسئولية خريطة الطريق: وكان المسئول عنها أحد الأَدِلاَّء الخبراء بالطرق، وهو عبد الله بن أريقط، الرجل المشرك.
لقد أعطيتم -صلى الله عليكم وسلم- درسًا عظيمًا في فنون توظيف الطاقات، ومهارات استغلال كل الإمكانات المادية والبشرية المتاحة لتنفيذ خطته.
4- امتلاك روح التحدي:
من خلال متابعة هذه الرحلة، نستشعر مدى صبركم -صلى الله عليكم وسلم- في تبليغ الفكرة بكل الطرق، وبكل الوسائل؛ فإذا أغلق باب أمامكم، سعيتم وبحثتم عن أبوب أخرى.
وهذا ما يعرف في علم التنمية البشرية بامتلاك أهم مفتاحين من مفاتيح النجاح والتغيير، وهما الالتزام بالهدف، والعيش دومًا بروح التحدي لتحقيقه.
ولا شك أن من أقسى العوائق التي تجعلنا سواء على المستوى الفردي أو المؤسسي نراوح في مكاننا؛ هي عدم الالتزام بما نؤمن به، وعدم الجدية في تحدي كل ما يقف في سبيل تحقيق أهدافنا.
5- الاهتمام بالإدارة المرئية:
كان في اهتمامكم -صلى الله عليكم وسلم- بقضية الخروج إلى الناس؛ هو أنه تحوُّل مبتكر في طريقة الدعوة، وذلك بالتجول بين قبائل الحج في هذه الفترة، بعدما أُغلقت كل الطرق.
وهذا لا نستطيع أن نفهمه إلا من خلال نظرتين:
الأولى: أن هذه الأمة الراشدة ما كانت لتبلغ مقام الخيرية إلا من خلال الخروج إلى الناس؛ أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، انطلاقًا من القاعدة الإيمانية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
الثانية: أنه وفي أجمل كتب الإدارة[1] الأكثر مبيعًا، تحدث المؤلفان عن (نظرية السيولة التنظيمية)، أي إخراج الإدارة من المكاتب إلى مواقع العمل.
وهي تعني كلها قمة الاتصال غير الروتيني وسهولته، وثراء الاتصال غير الرسمي، وتكثيفه بين فرق العمل، ووحداته المتنافسة بعضها مع بعض من ناحية، وبينها وبين القيادة من ناحية أخرى.
6- بناء الرديف وتجنب ظاهرة الثغرة الإدارية:
كان من عادتكم صلى الله عليكم وسلم الطيبة -كما يبدو في رحلة الهجرة- هو اتخاذ رفيق في كل تحركاتكم وسفرياتكم، وذلك باصطحاب الصديق رضي الله عنه.
وهذا الملمح يمكننا فهمه أيضًا من خلال أمرين مهمين:
الأول: أنه من السُّنَّة طلب الرفقة في السفر: "لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليل وحده"[2].
الثاني: أن من أهم الملامح الإدارية في الشركات الرائدة والمؤسسات الناجحة؛ هو أهمية بناء الصف الثاني أو الكوادر، وتهيئة المساعد أو الرديف.
وهذه القضية أو (ظاهرة الثغرة الإدارية)، ويقصد بها ظاهرة العجز المؤسسي في بناء الكوادر، وضبابية أو غموض آليات التوريث القيادي المؤسسي، يعتبرها روَّاد الإدارة وخبراء التنمية البشرية من أخطر أسباب تصدع المؤسسات وانهيارها.
7- تجديد وتطوير يوازن بين الثوابت والمتغيرات:
هذا الأسلوب الذي اتبعتمونه -صلى الله عليكم وسلم- في التجديد المستمر في عرض الفكرة، وعدم الوقوف عند طريقة ثابتة، بل بتطوير الوسائل والآليات حسب الوقت المتاح، ومتغيرات الواقع المحيط.
وهذا لأن هذا التجديد والتطوير جزء من سنة التداول، وهي من السنن الإلهية الثابتة، أو القوانين الربانية العامة التي تنظم وتتحكم في حركة الوجود: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
حتى إن المنهج يحتاج إلى التجديد في عرضه، والإبداع في فهم الرسالة: "إن اللهَ يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"[3].
8- الرؤية المستقبلية .. وبث الأمل:
من المواقف الرائعة هي عودة سراقة بن مالك -رضي الله عنه- من مطاردته لكما، فذهب متقصيًا وباحثًا عن الجائزة، ثم يعود مخذلاً وعميًا عنكما؛ حيث وعدتموه بيوم سيأتي مستقبلاً فبشرته: "كأني بك قد لبست سواري كسرى".
وتحقق الحلم في عهد الفاروق -رضي الله عنه- عند فتح فارس.
وهي رسالة تدل على أهمية الرؤية المستقبلية لتحقيق الأهداف، ولبث روح الأمل في المحيطين.
وبعد، أيها الحبيب صلى الله عليكم وسلم...
فهذه بعض الخواطر التي هاجت بها ذاكراتنا مع نسائم ذكرى الهجرة العطرة.
وإلى لقاءٍ آخر، نسأل الحق سبحانه ألاَّ يحرمنا بركة رضائك، ويرضيك عنا.
وصلى الله عليك في عليائه، وسلم عليك كثيرًا.