أقام اليهود بالجزيرة العربية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفخرون على جيرانهم من العرب بأنهم من أهل الكتاب، وأنهم يعتنقون دينًا سماويًّا منزلاً من عند الله، وقد اقترب ظهور نبي آخر الزمان الذي بشّرت به كتبهم المقدسة، وأنهم يتطلعون أن يكون هذا النبي من بينهم، فلما بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب، غضبوا وطارت عقولهم حسدًا من عند أنفسهم أن النبوة لم تكن فيهم! فأجمعوا أمرهم وقرروا أن لا يؤمنوا بهذا النبي العربي، رغم قيام الحجج والبراهين الساطعة على صدقه صلى الله عليه وسلم، ولكن ذلك لم يزدهم إلا عنادًا وعداوة واستكبارًا، وحقدًا وحسدًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل قرروا محاربته بكل ما أوتوا من قوة.
روى ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب -رضي الله عنها- قالت: "كنت أحَبَّ ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قطّ مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسِين، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما، مع ما بهما من الغمّ. قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله. قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
وكان عبد الله بن سلاَم -رضي الله عنه- حَبْرًا من فطاحل علماء اليهود، ولما سمع بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في بني النجار جاءه مستعجلاً، وألقى إليه أسئلة لا يعلمها إلا نبي، ولما سمع ردوده صلى الله عليه وسلم عليها آمن به ساعته، ثم قال له: "إن اليهود قوم بُهت (يفترون الكذب)، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بَهَتُونِي عندك". فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله بن سلام البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا -وفي لفظ: سيدنا وابن سيدنا، وفي لفظ آخر: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» فقالوا: أعاذه الله من ذلك -مرتين أو ثلاثًا-، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. قالوا: شرّنا وابن شرّنا، ووقعوا فيه" (رواه البخاري).
مؤامرات اليهود في المدينة
إن عداوة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم لا عجب فيها، فحالهم مع أنبيائهم، فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون، ومن ثَمّ لا غرابة أن يكذبوا ويعادوا ويتطاولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويحاولوا قتله.
أما مواقفهم ومؤامراتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين في المدينة فكثيرة، نشير إلى بعضها للاستفادة منها في واقعنا..
إساءة الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضرته وأثناء خطابه، فكانوا يحيونه بتحية، في باطنها الأذى والحقد عليه صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على خبثهم وسوء أخلاقهم وبغضهم الشديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السَّامُ (الموت) عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه يا عائشة؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش». فقلت: يا رسول الله، ترى ما يقولون؟ فقال: «ألست تريني أرد عليهم ما يقولون وأقول: وعليكم» (رواه البخاري). قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك، وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8].
تفكيك الجبهة الداخلية للمسلمين:
ولقد حاول اليهود -كعادتهم- تصديع وتفكيك الجبهة الداخلية للمسلمين، فهذه إحدى وسائلهم الخبيثة -قديمًا وحديثًا- في حرب الإسلام، وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة للوقيعة بين المسلمين.
روى الطبري في تفسيره: أن شاس بن قيس اليهودي، كان عظيم الكفر شديد العداوة للمسلمين، مرّ يومًا على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون، فغاظه ذلك حيث تآلفوا واجتمعوا بعد العداوة، فأمر شابًّا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكّرهم يوم بُعاث، وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار، وكان يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، ففعل، فتشاجر القوم وتنازعوا، وقالوا: السلاح السلاح..!
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار، فقال: «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم». فعرف القوم أنه نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخرًا من ذلك اليوم، وأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 99].
ومن خلال هذا الموقف نرى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على إفشال مخطط اليهود الهادف لتفتيت وحدة الصف، وكذلك اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين وإشفاقه عليهم، وفزعه مما يصيبهم من الفتن والمصائب، فقد أسرع إلى الأنصار وذكّرهم بالله، وبيّن لهم أن ما أقدموا عليه من أمر الجاهلية، وذكّرهم بالإسلام وما أكرمهم الله به من القضاء على الخلاف، وتطهير النفوس من الضغائن، وتأليف القلوب بالإيمان، فمسحت كلماته صلى الله عليه وسلم كل أثر لأمر الجاهلية -بفضل الله تعالى-، فأدركوا أن ما وقعوا فيه كان من وساوس الشيطان وكيد عدوهم من اليهود، فبكوا ندمًا على ما وقعوا فيه وتعانقوا؛ تعبيرًا على وحدتهم ومحبتهم الإيمانية لبعضهم.
غدر اليهود ونقضهم العهود مع الرسول:
لما انتصر المسلمون في غزوة بدر، اغتاظ اليهود في المدينة بشدّة، فكان يهود بني قينقاع يسخرون من المسلمين، ويقللون من شأن انتصارهم يوم بدر، وقام شاعرهم كعب بن الأشرف بحملة عدائية ضد المسلمين، وأخذ يبكي بشعره قتلى بدر من المشركين، ويحرض قريشًا على الأخذ بثأرها، ومحو عار هزيمتها.
وتمادى يهود بنو قينقاع في شرهم، فاعتدوا على امرأة مسلمة، دخلت سوقهم لتبيع مصاغًا لها، فأحاط بها عدد من اليهود وآذوها، وطلبوا منها أن تكشف عن وجهها، فأبت، فعقد الصائغ ثوبها إلى ظهرها وهي لا تشعر، فلما قامت تكشفت فضحكوا عليها، فصاحت واستغاثت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، فتجمع اليهود على المسلم فقتلوه، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدًّا من غزو هؤلاء الخائنين، وقد نقضوا العهد الذي بينه وبينهم بهذه الفعلة النكراء، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ثم فكّ الحصار عنهم وأجلاهم عن المدينة بعد أن أخذ أسلحتهم، فارتحلوا مخذولين إلى حدود بلاد الشام.
ولم يتعظ من بقي من قبائل اليهود بما حدث لإخوانهم من بني قينقاع، وراحوا يمارسون هوايتهم وطبعهم في المكر ونسج المؤامرات، وازدادت جرأتهم بعد غزوة أحد، حتى وصل بهم الأمر أن خططوا لمؤامرة تهدف إلى التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما خرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من يهود بني النضير مساعدته في دفع دية رجلين قتلهما أحد المسلمين خطأً، وكان ذلك يجب عليهم حسب بنود المعاهدة التي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فتظاهروا بالموافقة، لكنهم بيّتوا الشر، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس بجوار جدار أحد بيوتهم ينتظر وفاءهم بما وعدوا، وخلا بعضهم إلى بعض، واتفقوا على أن يلقى أحدهم صخرة كبيرة على النبي صلى الله عليه وسلم من فوق ذلك البيت فتقتله..
فنزل جبريل -عليه السلام- من عند رب العالمين، وأخبره بما هَمَّ به أولئك الخبثاء من غدر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مسرعًا، وتوجه نحو المدينة، ولحقه من كان معه من أصحابه، وعندما تأكد للنبي صلى الله عليه وسلم إصرار هؤلاء اليهود على الغدر، وتآمرهم وحقدهم على الإسلام، اتخذ قراره بإجلائهم عن المدينة.
عداوة اليهود للرسول وللمسلمين
لقد شن اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم قديمًا وحديثًا حملات إعلامية لتشويه صورته، وتنفير الناس منه ومن دينه ودعوته؛ لشعورهم بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا الجنس اليهودي.
فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي بعقيدة التوحيد وهم يقولون: عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة وهم يرون أنهم شعب الله المختار، ومن ثَمّ كثرت مواقفهم ومؤامراتهم الخبيثة؛ لمحاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، والقضاء على الإسلام في مهده الأول في المدينة المنورة.. هذه المؤامرات تتكرر بين الحين والحين، وتتغير أشكالها بتغير الزمان والمكان، لكنها لا تتوقف، ولن تتوقف، فقد أوضح الله تعالى للمسلمين أن عداوة اليهود لهم أبدية، لا تقبل التغيير، ولا تتحول إلى المسالمة والمحبة إلا إذا ارتد المسلمون عن دينهم، فقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
هكذا شأن اليهود، فالعداوة للحق متأصلة فيهم يتوارثونها كابرًا عن كابر، فهم قتلة الأنبياء وأعداء الرسل وأعداء أتباعهم في كل عصر وفي كل مِصر.
إن مواقف اليهود الخبيثة والحاقدة على الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة كثيرة، وليس هذا حصرًا لها بقدر ما هو إشارة إلى بعض منها؛ للاستفادة منها في واقعنا.. فعلى المسلمين أن يتنبهوا لمؤامرات اليهود وغيرهم، وأن يقفوا يدًا واحدة أمام أطماعهم ومؤامراتهم.